الموضوع: ذكربات هناك
عرض مشاركة واحدة
قديم 11-11-2008, 09:26 AM   #4
د.خالد الرفاعي
هاوي







Talking على عرفات الله (16)

على عرفات الله (16)

وصلنا مكة بعد صلاة المغرب تقريبا وكنا في غاية الإرهاق و التعب لكن فرحة الوصول و شعورنا بأننا قاب قوسين أو أدنى من أداء مناسك الحج جعلنا ننسى كل ما حدث لنا في الطريق. و فور وصولي انطلقت مباشرة للفندق و تركت حقائبي و ذهبت لأداء جزء من المناسك و هي طواف القدوم و سعي الحج لأنني حججت مفردا في هذا العام و الحج لمن لا يعرف على ثلاث مراتب و هي التمتع و القران و الإفراد ، و التمتع هو أفضلها على الإطلاق لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدي لأحللت " و لا أريد أن أدخل بك عزيزي القارئ في مسائل فقهية لذا أكتفي بما ذكرت هاهنا.

فرغت من أداء الطواف و السعي و كل ذرة في جسدي تصرخ مطالبة بنيل حظها من الراحة و إلا أعلنت العصيان و توقفت عن عملها لذا قررت الإذعان لمطالب جسدي المنهك و ذهبت إلى الفندق لأنام حتى صلاة الفجر حتى يمكنني أداء المناسك على أكمل وجه و لم أكد ألقي جسدي المكدود على الفراش حتى داعب النوم جفوني و سقطت في بئر سحيق لا أدري بما يدور حولي و لكن كعادتي دائما ما أجد مفاجأة كالعادة تنتظرني حتى تطير النوم من عيوني و تخرجني من سباتي العميق فقد انطلق فجأة هاتفي المحمول يصرخ مطالبا إياي بالاستيقاظ من النوم و لو كان هذا الهاتف رجلا لقتلته فقد كان النوم في هذه اللحظات أغلى شيء .

رفعت الهاتف إلى أذني و أنا في غاية الضيق و التعب و جاء صوت محدثي عبر الهاتف يسألني باللطف (( أنت نمت و نسيت يا خالد ؟))
أجبت طبعا بكياسة (( أبدا أنا مستيقظ و كله تمام !!)) طبعا سألت نفسي من المتكلم و نسيت ماذا لا أدري ؟!!
قال المتحدث (( إذا أنا في انتظارك حالا في الحرم و معي زياد لا تتأخر!! )بمجرد سماعي لأسم زياد تذكرت كل شيء كان المتحدث طبيب أسنان معنا في المستشفى جاء هو و زوجته لأداء فريضة الحج و عنده طفل لطيف أسمه زياد عمره حوالي عام و كان الطبيب يبحث عن شخص يحمل الطفل ريثما ينتهي هو و زوجته من أداء المناسك و طبعا كان هذا الشخص هو أنا و قد اخبرني الطبيب قبيل الحج بعدة أيام بأنه سوف يترك لي زياد لعدة ساعات حتى ينتهي هو و زوجه من أداء المناسك فوافقت دون تردد لكن مشقة السفر جعلتني أنسى الأمر حتى جاءني صوت الرجل عبر الهاتف ليذكرني يزيزو (زياد) .

زياد طفل صغير جميل ما شاء الله و مثل غالب الأطفال الحل الوحيد لشد انتباهه هو أن يرى أمام عينه لعبة لطيفة فكان المفترض مني و لمدة ثلاث ساعات - و الإجهاد يكاد يقتلني - أنا ألعب مع زياد و أشد انتباهه حتى لا يبكي و كان يجري حولي في كل مكان و كلما رأى امرأة منتقبة صرخ ماما... ماما . لم اصدق عيني حين عاد أبوه و أمه فقد كنت على شفا انهيار عصبي وحمدت الله أنني لم أفقد أعصابي فقد كان زياد قد بدأبيتململ ويبكي و يأبى الجلوس أو النوم.

عدت مجددا إلى الفندق و كانت الساعة الواحدة صباحا تقريبا و أوصيت عامل الفندق أن يوقظني لصلاة الفجر لأني لن أستطيع أن أستيقظ بنفسي و مرت ساعات و أنا نائم ثم استيقظت و عندما نظرت في الساعة كانت عقاربها تشير للسابعة شعرت ساعتها بضيق نفسي شديد لضياع صلاة الفجر صبيحة يوم عرفة و كدت أبكي من الحزن و أردت أن أدق عنق العامل لأنه لم يوقظني لكني تذكرت أنني محرم فقررت الصفح عنه لعله انشغل أو نسى. قمت و توضأت و أديت الصلاة ثم خرجت إلى ساحة الفندق فلم أجد أي شخص كان الفندق خالي تماما فقد خرج الجميع منذ الصباح الباكر إلى عرفة فقررت الذهاب وحيدا و بمجرد خروجي من الفندق شعرت أن مكة كلها قد أصبحت لون واحد و أن ربوعها قد اصطبغت باللون الأبيض كانت مكة عن بكرة أبيها تسير نحو عرفة و هو مشهد يهز الوجدان و يبعث في النفس خشوع عجيب لا يشعر به إلا من رآه الغريب أنني و حتى هذه اللحظات لم أكن أدري الخطوة القادمة نعم أنا قرأت عن مناسك الحج باستفاضة لكن القضية كانت غير هذا تماما فالمفترض أن الرجل الذي استضافني كان سيأخذني معه لأحد المخيمات في عرفة و لكنه يبدو أنه في غمرة الأحداث نسى الأمر و كان جواله مغلق و الوصول لأي شخص في هذا الوقت عن طريق الجوال من دروب المستحيل لذا كان علي أن أبحث عن حل أخر و كان أمامي خياران الأول الاتصال بخالي و هو ضابط شرطة و كان مشرف على حجاج القرعة المصرية و الأمر الأخر الاتصال بأصدقاء لي جاءوا للحج هذا العام و قد حاولت جاهدا الوصول إلي أي منهم و لا يمكن أن تتصور عزيزي القارئ مدى صعوبة الأمر فوسيلة الاتصال الوحيدة هي الهواتف النقالة و هي تكاد تكون عقيمة في هذا اليوم و الأصوات دائما تأتي متقطعة و استطعت بعد جهد جهيد أن ألقى صديقي إبراهيم سيف وقد استغرق هذا الأمر حوالي 5 ساعات تقريبا كل هذا و أن أتنقل على عرفة سيرا على الأقدام و كنت في هذه الأثناء أحاول أن أذكر الله كثيرا و أقرئ أحيانا بعض آيات الله . و لم أستطع طوال هذه المدة أن أجلس و لو لحظة واحدة فقد كانت الطرقات ممتلئة تماما ، و كنت قد قابلت حاج باكستني تائه و ساعدته حتى وجد بعض معارفه أما إبراهيم في طريق للوصول إلي فقد ساعد العديد من الحجاج التائهين و أنا أرى أن باب تفريج الكرب في الحج من أعظم الأبواب و التي قد يغفل عنها الكثير بحجة أنه قد أتى لأداء المناسك و أن هناك مختصين للقيام بمثل هذا الأمر و هذا مع كامل احترامي فكر سقيم فهؤلاء المكروبين في حاجة ماسة للمساعدة فاللغات مختلفة و الأماكن متشابهة و الطرقات شديدة الزحام و السلطات مهما بذلت من مجهود لن ستطيع خدمة هذا الجمع الغفير لذا فمهمة رفع المشقة عن الآخرين لا تنحصر أبدا في الجنود و الضباط إنما هي مهمة جماعية بالمقام الأول .

التقيت إبراهيم و كنت في غاية السعادة لهذا و كنت قد عثرت أيضا على المخيم الموجود فيه خالي كما يقولون (( عصفورين بحجر واحد )) تجولنا قليلا ثم تركته لأعود مرة أخرى لخالي و هنا سوف أتوقف قليلا عن سرد الأحداث لأنقلكم مباشرة إلى هذا المكان الرائع عرفات الله .

عرفة منطقة شاسعة فيها سكون عجيب يطلع إليها الله سبحانه وتعالى ليباهي ملائكته بطاعة عباده له و في عرفة تسكب الرحمات و العبرات و تخشع الأصوات و ترتفع أكف الضراعة، في عرفات الله وقفات و تأملات لا تحصيها كلمات و لا تحويها كتب فكيف تصف تلك الوجوه الناضرة التي هي إلى ربها ناظرة و كيف تكتب عن تلك المشاعر الراقية و الأحاسيس المرهفة لقد جاء هذا الجمع الغفير شعث غبر لا يرجون شيء إلا رحمة الخالق سبحانه و تعالى .

الحج عرفة و لا عجب في ذلك فما يري يوم أكثر عتيقاً ، و لا عتيقة من يوم عرفة لا يغفر الله فيه لمختال كما جاء عن الهادي البشير صلوات ربي و سلامه عليه و ما رئي الشيطان يوماً هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أغيظ ولا أذل فيه من يوم عرفة فهو يوم مفاصلة و فيه يتحرر الإنسان من عبودية المادة التي طغت على واقعنا المعاصر بتحرره من ثيابه و زينته و تركه ليس للمحرمات فقط و إنما لجانب من الأمور المباحة شرعا لكن أراد الله سبحانه و تعالى لعباده في هذا الموقف الجليل أن تتحرر أجسادهم و قلوبهم من كل رابط أرضي لتحلق هذه الأرواح في سماء الرحمة و لتذوق لذة و حلاوة المناجاة بعيدا عن صخب الحياة و أنواء الواقع و مشاغل الدنيا.

الحج عرفة كيف لا و قد بلغ منا الجهد مبلغه و أنهكنا الجوع و العطش و صارت الأفئدة تسعى حثيثا لطلب الرحمة من رب العباد لقد جاء هؤلاء البشر من بقاع شتى يرجون رحمة ربهم و يخافون عذابه و ما بُذلت الأموال و لا أُجهدت الأبدان إلى لهذا الهدف السامي إرضاء الله سبحانه وتعالى و هو مفتاح دار السعادة التي لا تقاربها دار في أرضنا هذه أبدا و لا تضاهيها لقد ارتفعت الأيدي بالدعاء في هذا اليوم و اختلطت الأصوات و انشرحت الصدور بذكر ربها الغفور و نزلت السكينة و غشيت تلك البقعة المباركة الرحمة ، اللهم ما تقبل منا و تابع لنا بين الحج و العمرة و ارزقنا الإخلاص في الأقوال و الأعمال.
د.خالد الرفاعي غير متصل   رد مع اقتباس