مشاهد لا أنساها (17)
هناك مشاهد و مواقف لا بمكن أن تُمحى من ذاكرة المرء أبدا ، و لعل مشاهد الحج من أروع المشاهد التي رأيتها في حياتي فهي تحمل في طياتها حكم و عظات و منها المبهج و منها ما يدعو للأسى و قد رأيت أنه ما دمنا قد تكلمنا على الحج فلا مانع من تسجيل بعض هذه المشاهد و طرحها بين يدي القارئ الكريم .
من المشاهد الرائعة مشهد الإفاضة من عرفات إلى مزدلفة و يشبهه كثيرا مشهد رمي الجمرات فالناس كلها تسير في اتجاه واحد و كأنه يوم الحشر يوم يحشر الناس إلى ربهم و ترى في عيون البشر هذه الرغبة و الرهبة فيما عند ربهم من رحمات لا تنضب مغفرة تسع أهل الأرض جميعا لو اخلصوا السير في طريق الله . و لقد كان هذا المشهد و ما يزال من أكثر مشاهد الحج الماتعة التي تؤثر في قلب كل من شاهدها و قد قمت بتصوير هذا المشهد الرائع بجوالي المسكين الذي لفظ أنفاسه الأخيرة بعد عودتي للقصيم مباشرة كما أخبرتكم آنفا !.
و كنت قد اضطررت للسير من عرفة لمزدلفة لأن الأتوبيس قد يستغرق عشرات الساعات و أنا بطبيعتي لا أستطيع المكوث في مكان واحد لفترة طويلة ، و قد تركت خالي في الثانية صباحا لأن الطريق كان متوقف تماما و قررت أن أسير على قدمي حتى وصلت منى مع مطلع صلاة الفجر في واحدة من أمتع المرات التي سرت فيها على قدمي إن لم تكن أمتعها على الإطلاق أما خالي فقد وصل مع باقي الفوج حوالي الساعة 11 صباحا في اليوم التالي ! .
من المشاهد المؤثرة مشاهد مساعدة المحتاجين في الحج فمنهم التائه و المريض و الفقير و هذا في رأي الخاص هو أعظم أبواب الأجور و الحسنات في الحج بل لعله و الله أعلم من حكمة الله حين شرع هذه الفريضة للأمة فرفع البلاء عن أمثال هؤلاء إنما هي رحمة جعلها الله في قلوب عباده و كم كنت أشعر بسعادة بالغة حين أرى مجموعة من الشباب يسيرون مع رجل أو امرأة على - اختلاف الجنسيات و الثقافات – يمدون له يد المساعدة و يبحثون معه عن مكان الفوج الذي جاء معه هذا الرجل أو المرأة ، و على قدر الحزن الذي كنت أشعر به نحو هذا المسكين لفقدانه أهله و أصدقائه على قدر ما كانت تملأ قلبي فرحة عارمة أن جعل الله في هذه الأمة رحمة يعطف بها القوي على الضعيف و الغني على الفقير فترى ملحمة عظيمة في رفع الظلم و نشر العدل و كانت لي تجربة لطيفة مع امرأة في السبعين تقريبا من عمرها صينية الجنسية و جدتها تقف مع أحد الجنود و هو يشير لها في عدة اتجاهات محاولا أن يشرح لها شيء بالطبع هي لم تفهم و لو هو استطاع أن يشرح فتبرعت على الفور بالتدخل في الحديث فأنا أجيد الإنجليزية و جال بخاطري أن هذه المرأة و لا شك تعرف على الأقل النذر اليسير من الإنجليزية مما يجعلني قادر على التعامل معها ، و شعر الجندي أن رحمة من السماء قد نزلت عليه حين رآني أتحدث إلى المرأة بلغة لا يفهمها هو أما أنا فشعرت بخطر شديد فالمرأة لا تعرف حرف واحدة من اللغة الإنجليزية وتتحدث الصينية فقط ، نظرت حولي في حيرة شديدة فمعي الآن امرأة صينية عجوز لا تفهمني و لا أفهمها و تريد العثور على أسرتها و بالطبع معلوماتي عن الصيني كمعلومات الحاجة أم السيد بائعة الخضروات المجاورة لمنزلنا عن الخريطة الجينية أي أنها تساوي صفر بل ربما دون الصفر بقليل من هذا المنطلق قررت أخذ هذه المسكينة إلى مركز الحجاج التائهين كان هذا صبيحة يوم النحر بعد أن قمت بإلقاء الجمرات ظللت أسير في طرقات منى في محاولة للعثور على المركز لكن الأمر كان شاق للغاية فالزحام لا يوصف و الناس تجري في شتى الاتجاهات بعد أن انهوا أعمال يوم النحر ليتحللوا من ملابسهم و كان من الصعب جدا أن تجد من يستمع إليك و قد حاولت التحدث إلى العديد من ذوي الملامح الآسيوية لكن دون جدوى فلم أعثر على شخص يجيد الإنجليزية ثم كان أن هداني الله لأصل إلى أحد مخيمات الحجاج الأمريكان ففوجئت أن غالبهم من المصريين الحاصلين على الجنسية اأمريكية ، و استقبلني شاب مصري بحفاوة بالغة و قرر مشاركتي رحلة البحث عن مكان هذه المرأة و أخيرا استطعنا أن نجدد حجاج صينيين أخذوها معهم لينتهي أحد المشاهد التي لا أنساها .
و من المشاهد المبهجة أن تلقى قدرا أو بموعد مسبق أحد معارفك و قد كانت سعادتي غامرة حين لقيت خالي و بعض أصدقائي و على رأس القائمة أخي الحبيب د/ حازم شومان وهو أحد الدعاة الشباب المعروفين في مدينتي و قد نمنا سويا على أحد أرصفة منى و لم يكن معنا سوى غطاء واحد صغير جدا و الطقس شديد البرودة فكان دكتور حازم يستيقظ ليضعه علي و ينام دون غطاء فاستيقظ أنا من فوري لأضعه عليه مرة أخرى و هكذا طوال الليل . و قد التقيت أنا و دكتور حازم مع أحد الدعاة المشهورين جدا و له العديد من البرامج حاليا في الفضائيات و هو الدكتور صلاح سلطان وهو يشغل حاليا منصب المستشار الشرعي للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية و وزارة الشئون الإسلامية بمملكة البحرين ، و كان لقاء شيق للغاية تحدثنا فيه عن عالمية الإسلام و النوازل الفقهية والتيسير في الحج و قد طلبت منه مراسلته و التواصل معه ثم نسيت الأمر بعد ذلك .
و من اللطائف أنه في أخر ليلة من ليالي التشريق قابلت دكتور شريف القطب و هو صديق عزيز و صاحب الصيدلية التي عملت بها بعد تخرجي و أخيرا كنت استقل حافلة في طريقي إلى منى قادما من مكة ففوجئت بان الرجل الذي يجلس خلفي تماما هو ضابط أمن الدولة الذي فابتله في مدينة المنصورة قبل سفري فلم أتمالك نفسي من الضحك !.
و كانت مثل هذه اللقاءات التي يدبر لها الملك سبحانه و تعالى أفضل و أمتع من اللقاءات التي نعد لها مسبقا و هناك عشرات المواقف المشابهة لا أريد أن أثقل كاهل القارئ الحبيب بها.
أما أفضل موقف مر بي أنا شخصيا في الحج و أسأل الله العظيم أن يتقبله مني و أن يجعله خالصا لوجه هو ما حدث صبيحة يوم الثاني عشر من ذي الحجة فلسبب غير مجهول قامت البعثة المصرية عن بكرة أبيها برمي الجمرات ليس فقط قبل الزوال و لكن قبل صلاة الفجر و العلماء إن كانوا قد رخصوا في الرمي قبل الزوال فقد جعلوا وقت الرمي يبدأ مع صلاة الفجر أما أن يلقي الناس لليوم الأخير قبل الفجر فلم أسمع به أبدا و قد حاولت أن أثني أعضاء البعثة عن هذا و قلت لهم إن أردتم أن تأخذوا بالرخصة فلا مانع و الله أعلى و أعلم و لكن ألقوا بعد الفجر أما أن تلقوا قبل الفجر فلم نسمع بهذه الفتوى أبدا و بالطبع ذهب كلامي أدراج الرياح فقد كانت التعليمات أن تغادر البعثة المصرية منطقة منى و تتجه إلى الفنادق قبل صلاة فجر يوم الثاني عشر من ذي الحجة ، قام الناس بإلقاء الجمرات و عادوا مجددا للمخيمات في انتظار تعليمات المشرفين للتوجه للحافلات و هنا أسمح لي أيها القارئ أن أشرح لك بتفصيل بسيط نظام المخيمات حتى تفهم تحديدا ما حدث في هذه الليلة ، المخيمات عبارة مجموعة خيم خراسانية يجمعها سور واحد و كل مخيم له رقم فلنفترض مثلا (16) فيكون المخيم (16) هذا هو مساحة الأرض التي تحوي عدد أخر من الخيام كل خيمة لها حرف أبجدي و يقطنها حوالي 25 شخص تقريبا و الحافلات مكتوب عليها رقم المخيمات بترتيب معين فمثلا الحافلة (16- أ) تعني الخيمة (أ) في المخيم (16) و هكذا. و هناك شارع صغير مجاور للبعثة المصرية و وكان عدد المصريين في هذه المنطقة حوالي 15 ألف نفس و ما حدث في هذه الليلة أنه بعد أن قام الناس برمي الجمرات كنا في انتظار الحافلات لتقل الناس إلى مكة أما أنا فكنت قد قررت أن ألقي بعد الزوال و كان معي لواء شرطة متقاعد و مستشار قد قرروا المكوث معي ، و كنت متحمس جدا لمساعدة الناس في نقل حاجاتهم إلى الحافلات و كنت قد اكتسبت ثقة و محبة الناس في المخيم بفضل الله في فترة و جيزة جدا و استطعت أن أكسب ودهم بشكل كبير في هذه الأيام القليلة لذا فقد ألتف حولي الناس حين بدأت بوادر الأزمة و بفضل الله استطعت أن ألعب دور مهم جدا في هذه الليلة لحل الأزمة الرهيبة التي حدثت فجأة و هذه الأزمة باختصار أنه كان من المفترض أن تأتي الحافلات تباعا لتخلي المخيمات بالترتيب 16 ثم 17 ثم 18 ..... إلخ ، و تكون أيضا بترتيب الخيام داخل المخيم الواحد حتى لا تحدث فوضى فمثلا (16-أ) ثم (16-ب) وهكذا لكن جاء قرار رهيب لا أدري من أين هل هو من المسئولين عن البعثة المصرية أم المطوفين - و المطوف هو الشخص السعودي المسئول عن كل مخيم - فقد انطلقت فجأة أصوات في كل المخيمات أن غادروا على الفور لأن الحافلات في انتظاركم في الخارج ليس هذا فقط بل أن هناك إشاعة لاقت رواج سريع و هي أن الحافلات قليلة و لن تكفي المتواجدين و أن الناس لن تستطيع مغادرة منى و نظرا لأن الإنسان خلق هلوعا فقد خرج الناس سراعا علما بأن غالب الحجاج من كبار السن و النساء و بعضهم مرضى للغاية و الآن تخيل معي أخي القارئ شارع ضيق جدا يسع حافلتان بالكاد و الناس لا تعرف أرقام الحافلات و لا تستطيع أن تجد المشرفين في هذا الزحام و التخبط الرهيب و أصوات الصراخ و البكاء في كل مكان و للآسف بعض كبار المسئولين فروا من المكان خشية أن تحدث كارثة فيسألوا عنها و ألقوا المسئولية على كاهل صغار الضباط و الذين كانت لهم - و هي شهادة حق – مواقف بطولية في هذه الليلة العصيبة و على الرغم من كل هذه الأحداث شعرت بمتعة رهيبة لم أشعر بها في حياتي كلها فقد وجدت فجأة نفسي بطلا – أسأل الله أن يرزقنا الإخلاص – في عيون لناس و أنا أحمل متاعهم بل أحيانا أحملهم و أجري هنا و أساعد هذا و أحافظ لهذا على متاعه و أساعد العجائز و المرضى في ركوب الحافلات كانت النشوى تعتريني و الفرحة بمساعدة هؤلاء الضعفاء تعصف بي . و ماتزال ابتسامات هؤلاء الناس في وجهي و شعورهم بالأمان لوجودي حولهم محفورة في ذاكرتي أراها شاخصة أمام عيني دليل واقعي على عظمة هذا الدين في حثه على الرفق بالضعفاء و مساعدة الآخرين فمن فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الرحمن الرحيم عنه كربة من كرب الآخرة فالهم ارزقنا الإخلاص و اجعلنا عونا لكل محتاج .
لقد أطلت النفس هذه المرة لكن أرجو المعذرة فو الذي لا إله غيره إن مشاهد الحج الرائعة لا تُمحى بهذه البساطة و الحديث عنها له مذاق خاص ، كيف لا و هي من أعظم الشعائر التي فرضها الله علينا وهي منة عظيمة لا يعرفها إلا من ذاقها و رأى بأم عينيه كيف يكابد المرضى و كبار السن الأمرين من أجل هذه الشعيرة العظيمة و قد رأيت هذا جليا و أنا أساعد الحجاج في مغادرة منى الأمر الذي استغرق الليل بطوله حتى مطلع الفجر و كنا قد أو شكنا على الانتهاء و تبقى معي امرأتان عجوزان معها عدد من الحقائب أضف لذلك بدانتهم و كانتا تبكيان خوفا من أن ألا يستطيعا العودة على مكة نظرت حولي يمينا و يسارا فوجدت حافلة مسرعة متجهة نحونا و بالطبع كان السائق لا ينوي التوقف أبدا و لم يكن هناك أمامي سوى حل واحد فقمت بحمل بعض الحقائب و ألقيت نفسي أمام الحافلة و انطلقت الصرخات من حولي فقد تصور الجميع أن الحافلة ستدهسني لكني كنت واثق أن السائق سوف يتوقف بعون الله و لم أتحرك من أمام الحافلة حتى قاموا بأخذ المرأتان فحمدت الله كثيرا .
بقي الآن في جعبتي مشهدان أخيران الأول هو الحادث المأساوي الذي وقع في هذا العام عند جسر الجمرات و راح ضحيته أكثر من ثلاثمائة نفس و كنت أنا شاهد عيان على هذا الحادث بل إن أسرتي بالكامل ظنت أني هلكت فقد أخبرتكم من قبل أن هاتفي المحمول كانت له معي مغامرة خاصة في الحج فقد قمت باستخدامه في تصوير العديد من مشاهد الحج مما تسبب في فراغ بطاريته تماما لذا لم أستطع أن أتحدث إلى أسرتي أو معارفي لطمأنتهم علي فعندما و قع الحادث و لم يستطيعوا الاتصال بي ظن أبي و أمي أني قد هلكت و لم يستطيعوا معرفة أخباري إلا في المساء بعد عودتي الفندق و كان موقف مؤثر للغاية ، أعود مجددا للحادث فقد حضرت أحداثه و هناك عدد من الإشاعات تواترت حول هذا الحادث لذا أرى من واجبي أن أفندها لله ثم للتاريخ منها على سبيل المثال أن أحد الشخصيات الهامة كانت ترمي في هذا الوقت فقامت الشرطة بدفع الناس مما أدى لوقوع الحادث أقول أن هذا كذب وبهتان فقد رأيت أميرة من لأسرة الحاكمة ترمي و حولها عدد من الجنود و كان عليهم جميعا و قار و هدوء و كان عدد الحرس بسيط جدا مقارنة بأنها أميرة و لم يدفعوا أحدا أبدا و يجب أن أوضح أنني لست مواطن سعودي و لا أعمل حاليا في السعودية و قد يكون عندي بعض الملاحظات الخاصة على أخطاء وقعت في الحج أي أنني لست صاحب مصلحة خاصة في مدح الحكومة السعودية و لكنها شهادة حق و من يكتمها يأثم قلبه ، و من الأكاذيب أن تشدد بعض العلماء في عدم الانصياع لأصوات الحكمة التي نادت في توسيع وقت الرمي هو سبب الحادث فأقول إن الأخذ بالعزيمة و الورع في الفتوى لا يسمى تشدد و قد رمى رسول الله صلوات ربي و سلامه عليه بعد الزوال و هو فعل غالب الصحابة و الجمهور على هذا و دون دخول في تفاصيل فقهية فإن إتباع الهدي النبوي لم و لن يكن أبدا سبب في الكوارث إنما سبب هذا الحادث و هذا رأي الشخصي هو جشع غالب أصحاب الحملات فيحملون الناس على التعجل في اليوم الثاني عشر مما يجعل الحجاج يتصرفون بشيء من التسرع يؤدي لوقوع مثل هذه الحوادث الأمر الأخر هو عدم الاستماع لأصوات الحق فكل اللافتات الإرشادية الموضوعة في كل شبر تقريبا من أرض مكة يضرب بها عرض الحائط فالناس تنام عند جسر الجمرات وتحمل متاعها معها أثناء مغادرة منى و كل هذه الأشياء مجتمعة هي سبب مثل هذه الحوادث فالحج مسئولية كل فرد و ليست مسئولية أفراد الأمن أو رجال الدولة .
صدقوني ما عرضته عليكم صور سريعة جدا فالحج مليء بالأحداث الرائعة التي لو قصصتها عليكم لاحتجت لعشرات الحلقات لكن حسبي ما ذكرته الآن و أرجو أن أكون قد وفقت فيه لكن أسمحوا لي بموقف أخير كنا قد ركبنا الحافلة لنعود إلى القصيم و ظل رفاقي يقصون ويلات ما فعله أبو ترك و المقالب الساخنة المضحكة المبكية لكنهم حمدوا الله جميعا أن أتم عليهم نعمة الحج عدت برأسي إلى الوراء و أخذت أستعرض شريط ذكرياتي مع هذه الرحلة الرائعة و تلك الأيام المبهرة التي قضيناها في رحاب الله و كنا فيها بحق ضيوف الرحمن و لم يقطع حبل أفكاري إلا صوت سعال شديد للغاية نظرت يمنة و يسرى لأرى من صاحب هذا الصوت البشع ثم تذكرت أنها حالة الربو القاتلة المصابة بها حافلتنا المسكينة و كالعادة توقف الحافلة على جانب الطريق و قف السائق الهندي ينظر إلينا و عيناه تكاد تدمع و قال بصوت مستعطف (( ايش سوي أنا .... هذا سيارة ما في كويس ... كتير خربان ))
أراكم بإذن الله في القصيم قريبا .